قلعة عَمّان: جسر أثري يربط الماضي بالحاضر
على قمة جبل القلعة، ترفع "قلعة عمّان" الأثرية رأسها شامخة كواحدة من أعرق المآثر التاريخية في الأردن والعالم. بين جدران هذه القلعة الحصينة والرصينة قصص طويلة، وحكايات جميلة، تروي قرونا من المجد والسؤدد. في هذا المكان، لا يستكشف الزائر موقعا أثريا فحسب، بل نافذة عريضة يطل من خلالها على زمن مضى وتولى وترك آثاره صامدة إلى يومنا هذا. على تراب هذه القلعة الأردنية تعاقبت حضارات شتى، وتركت بعضا من إرثها الغابر تتلمسه أيادي الباحثين والشغوفين بالتاريخ والثقافة والفن. من هنا، مر الرومان والبيزنطيون والأمويين وغيرهم، وظلت بصماتهم صامدة على الحجر والشجر.
بفضل موقعها الجغرافي من جهة، والاستراتيجي من جهة أخرى، شكلت قلعة عمّان منذ القدم حِصنا أمينا وملاذاً مغريا للإمبراطوريات الحالمة بأرض معطاء وطبيعة غناء. بين ثنايا هذا الرقعة الجغرافية الفريدة شكلا ومضمونا، تتجلى للزائرين على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم فصول متنوعة، وتنكشف أمام أعينهم الفضولية صفحات طويلة خطها التاريخ بأحرف من ذهب. في قلعة عَمّان مثلا، يطالعنا "معبد هرقل" بأعمدته الرومانية الشاهقة التي ظلت تقاوم الزمن دون كلل أو ملل، ويهمس لنا بحكايا قديمة عن حضارة عظيمة ومتكاملة، كان خلالها الجنود الرومان، يأكلون ويشربون ويحاربون، ويُصلون لآلهتهم، وكلهم أمل في الرغد والخلود.
غير بعيد عن "معبد هرقل،" يقف القصر الأموي شامخا، هو الذي بُني في القرن السابع الميلادي، ليروي لعالم اليوم عن حقبة ذهبية من النهضة الإسلامية الاستثنائية والعبقرية العربية المتفردة. هنا، كانت تُعقد مجالس العلم والفكر، وحلقات الأدب والمعرفة، وهنا كانت الفنون والعمارة في ذروة ازدهارها وقمة شموخها. اليوم، وبفضل هذه المآثر التاريخية وغيرها، تؤكد قلعة عمّان لمن يحتاج إلى تأكيد أنها ليست مجرد صروح حجرية جامدة؛ بل كتاب مفتوح يُقرأ بعدسة زمن تتداخل وتتشابك فيه الأحداث لتسنج في النهاية حكايات الذين مروا أو عاشوا على هذه الأرض الطيبة. في هذه القلعة، يصير كل أثر صغير، كل شظية فخارية، وكل نقش دقيق، عنوانا لقصة حياة حافلة ازدهرت وانمحت لكن نبضها لم ولن يتوقف أبدا.
إن زيارة المغتربين في الشرق والغرب لقلعة عمان ليست مجرد استكشاف روتيني لموقع تاريخي كغيره من المواقع، بل هي رحلة استثنائية وسفر وجداني عنوانه الكبير "العودة إلى الأصل، أصلٌ." في هذا المكان بالذات، يتجدد اللقاء بين القديم والحديث، ويُضرب الموعد بين الأصالة والمعاصرة، ليجد الزائر نفسه في ورطة العشق لهذا البلد العظيم ولإرثه الحضاري القديم. فالقلعة وإن بدت في عيون البعض مجرد أطلال بالية، إلا أنها في الواقع جسر حي بين الأزمان والأجناس والثقافات، وهي محطة حقيقة للقاء بين أجداد قضوا نَحبهم وتركوا ما تركوا من آثار، وأحفاد جاؤوا بعدهم وحُق لهم الفخر والاعتزاز.
وعلى الرغم من أن أنقاض القلعة القديمة في عَمّان تروي قصص ماضٍ بعيد في الذاكرة الجماعية والفردية، فإنها تقف اليوم بين أبنية عمّان الحديثة كأنها مرآة تعكس التناقض والتكامل بين القديم والجديد. فالمدينة الصاخبة التي تعج بالحياة تحت القلعة تضفي بعدًا آخر على التجربة برمتها، إذ يلتقي الهدوء الآسر للصروح التاريخية العريقة مع الحركة والصخب في شوارع وبنايات عمّان الحديثة. هذه الثنائية المتناقضة تجسد بحق روح الأردن، حيث التاريخ والحداثة يسيران جنبًا إلى جنب في وئام وسلام لا يتعكر صفوه أبداً.
إن زيارة قَلعة عمّان لَتجربة إنسانية عميقة تعيد إلينا الإحساس بالانتماء للوطن والتواصل مع الجذور التي تسكن فينا أينما حللنا وارتحلنا. إنها فرصة سانحة للأفراد والجماعات على السواء للتعرف على قصص الأجداد، ولغرس روح الفخر بهذا التراث الغني في نفوس الأحفاد الذين قد يعيشون يوماً بعيداً عن هذه الأرض. ومع أن عالم اليوم يتغير بالسرعة القصوى، إلا أن قلعة عمّان الخصينة كانت وستظل بحق رمزاً للثقة والثبات، تماما كما هي حال الروابط العائلية بين المغتربين وأهاليهم والتي لا تقطعها ولا تلغيها أبدا حدود الزمان والمكان.